قصتي مع أمي رحمها الله
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
قصتي مع أمي رحمها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصتي مع والدتي تحمل العجب وتنوء بالعبر وذلك لأنها مع القرآن ولعلي أبدأ بذكر القصة حتى لا أمل أبصاركم وأطيل انتظاركم …………
بدأية أذكر قول رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم (( إ ذا أرادا لله بعبده خيرا عسله )) و في رواية (( استعمله )) . واسأل الله أن تكون الوالدة البارة الحنونة ممن شملهم الحديث ونالوا هذا الفضل فهي رحمها الله مما يقرب سنتين تكرر سورة البقرة حتى حفظتها كالفاتحة ولله الحمد والمنة حتى جاءت بشارتها لي بأنها ختمتها فقلت لها ــ مداعباً ـ سأختبرك! فابتسمت لي ابتسامة تنطق بحب القرآن وأردفت قائلة : يا ولدي ما أعظم هذا القرآن تقول هذه العبارة تعظيما وحباً وشوقا فقلت استعدي للاختبار فصرت أمامها ألاطفها الحديث فقالت : اختبرني هيا !! فبدأت أختبرها في آيات وتجيب والعجيب في الأمر أيها القارئ الكريم أني كلما تأخرت في ذكر بعض الآيات بادرتني رادة علي !! فقلت : سبحان الله (( علمتك المسجد ……فأذنتي )) !! فهذا مثل نذكره عندنا يوازي قول الشاعر : أعلمه الرماية كل يوم فلما أشد ساعده رماني وهدفي من تأخري في ذكر الآيات اختبارها ..
واني لأذكر ـ والله ـ يوم أن كانت تصارع سكرات الموت قلت لي : يا ولدي سورة البقرة أحبها فاقرأ علي منها فأخذت أقرأ ويغشى عليها في غيبوبة بسيطة فإذا أفاقت قرأت عليها وهي في كامل إنصاتها ….. فأقول لها أتحبين سورة البقرة ؟ فتشير بعينها إشارة الحب ثم أعيد عليها وتعيد الإجابة !! استمرت القراءة حتى وصلت قول الله عز وجل (( يبني اسرئيل )) ولها وقفات مع هذه الآية فقد كانت ـ رحمها الله رحمة واسعة ـ عند وقوفها علي قوله (( كيف تكفرون بالله )) تردد ( لعنة الله علي الكافرين ـ يا ولدي ـيكفرون بالذي خلقهم !! فأجيبها : نعم ـ أمي ـ لعنة الله علي الكافرين هذه الأيدي وهذه العقول وهذه الأعين وهذه القلوب يمن بها عليهم ومع ذلك يكفرون به قالت: وما كفاهم ذا !! انظر كيف أفسدوا في الأرض أيما إفساد وتأثرت تأثرا عظيماً خاصة بوقعة العراق وكانت تلعنهم لعنات متتابعات وتظهر عليهم لعنات خاصة كلما جاءت عند قوله تعالى (( كيف تكفرون بالله )) وعند قوله سبحانه وتعالى (( فلعنة الله على الكافرين )) تقول :لعنهم الله ! لعنهم الله ! لعنهم الله ! لذا فاني لما أتيت عند هذه الآية توقفت لأنها وهي صحيحة تحب الوقوف عندها (( كيف تكفرون بالله )) تقول متعجبة : يكفرون بمن خلقهم يا ولدي ـ كيف يكفرون بالله (( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم )) ثم تقول : الله يحسن الخاتمة .
فواصلت القراءة حتى جئت قوله تعالى (( ثم استوى إلى السماء فسواهن )) واضع يدي عليها فتطرب سكينة … حتى وصلت قوله تعالى(( بابني إسرائيل أذكروا نعمتي))قوقفت كأني لا أعرف ما بعدها فردت مباشرة قائلة ((أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم )) قلت لها مازحاً : عجيب يعني دارستك إياها فسبقتني في حفظها , فابتسمت ابتسامة المكره ! قالت : يا ولدي جعلتني ابتسم هنا وهو مكان ما ابتسم فيه بهذا النص رحمها الله رحمة واسعة
ختمت البقرة معها ولله الحمد فقالت أرأيت سورة آل عمران أنتم تقولون إن فيه فضلاً عظيم قلت : أجل هذه ـ يا أمي ـ تجي يوم القيامة كالظلة غمامتان غيايتان كطير صواف تظل صاحبها . قالت : ما شاء الله …. إن شاء الله إني سأحفظها فجاهدت نفسها لتحفظها واستمرت وصابرات حتى جاء رمضان فلما انتهى وجلست إليها صبيحة يوم الخميس فإذا بها تردد ما كانت تردد تعظيما وإجلالا (( ما أعظم القرآن وما أعظم سورة آل عمران , لقد ختمتها ياولدي ولله الحمد ! ) فيها آية توقفت عندها وتعجبت منها فسألتها أي آية تكون ؟ قالت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فكررتها هي . فوعدتها أن اقرأ لها آخر السورة في صلاة الفجر فسجلت لها الصلاة .وأخذت جزءاً منها في صلاة العشاء من قوله سبحانه {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } الذي قد حفظته , أما مقدمة السورة فقد حفظته وسجلت لها وأعطيتها إياه , وبعد أيام سألتها عن الآيات فهللت متعجبة , والعجب يا أحبائي في الله فمع قطرتها إلا أنها كلما جاءت لآية وإذا بالآية التي بعدها تستوقفها أكثر وتتأثر منها أكثر حتى ختمت السورة فكاد قلبها أن يطيش كما قال ابن الجوزي : تدبرت هذا الحديث فكاد قلبي أن يطيش وفي رواية :كاد عقلي أن يطيش
ومن فضل الله عليها ــ يا أحبائي في الله ــ أنها دائمة الذكر لله تعالى بل أنها ممن يذكر الله ــ ولله الحمد ــ في اليقظة والمنام! وفي أحوالها كلها حتى وهي في سكرات الموت حتى آخر أنفاسها {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } كانت تصدر النظرات شاخصة فأتيت حذو أذنها وقلت لها : أتحبين الله الذي علمك سورة البقرة ؟ لأنني أعلم أنها تعني لها الشيء الكثير … فقد أخذت لسورة البقرة شريطا تسمعه طول وقتها وتقلبه إذا انتهى حتى أتقنتها فتصوب من يخطى فيها ويوم أن جئت لاختبارها وأعطيه آية تلو آية وتجيب وتكمل حتى قالت هيا اختبر ! قلت ( وإلهكم إله واحد ) قالت ( لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )) قلت ( إن في خلق السموات والأرض ) قالت اقرأ …. قلت هذا الاختبار , الاختبار أن أعطيك أول الآية فتكملي أنت ……. فأكملت وأخذت إلى شيء من السورة
وكانت تتمنى أن أختبرها في آل عمران كلها ولك المنية وافتها فأقبلت على رب رحيم كريم …
إن من سيرة والدتي رحمها الله أني ما علمتها أمست إلا وقد مرت على أولادها فرداً فرداً تسمي عليهم إلى أن لقيت ربها حتى وأن كبر أبناؤها فلا فرق عندها بين من أصبح كبير ذا لحية ومن بدا غلاماً وحتى طفلاً فتقرأ عليهم كلهم (( أعيذك بكلمات الله التامة من شر ما خلق )) وأحدنا نائم على فراشه كان هذا فعلها وفي كل ليلة إلى أن لقيت ربها
وكان ذكر الله صاحباً لها في كل مكان وكل حين فما تكاد تمر ليلة من الليالي إلا تمر وعلى أواني الأكل وتسمي عليها وقد كانت تأتي بالقرب على ظهرها ــ رحمها الله ــ فما تترك قربة ماء مفتوحة في الليل ــ فيا سبحان الله ــ إنها السنة فلا تترك وعاء إلا وتكبه على وجهه بعد أن تسمي بالله
ومن سيرتها رحمها الله
أنها كانت حريصة على حجابها جداً حرص حشمة وعفاف وتقى حتى كان بعض النساء يسخرون منها بألقاب لا أجرى على ذكرها , وهكذا حال ضعيفات الإيمان , أما والدتي فلله الحمد فكانت لا ترعيهم بالا فمن حرصها على حجابها أنه لا يمكن أن يعرفها أقرب قريب من غير محارمها أبداً ولا يستطيع أن يصف لك يداً ولا قدماً فضلاً أن يصف وجهها !! حرصاً عجيباً حتى إن أرادت تركب السيارة فكان أكثر ما يشغلها أن يبدو منها شيء
قلت لها في ساعة الاحتضار ــ وفيها شيء من ذهب أمي هل أنزع عنك هذا , قالت أجل يا ولدي أنزعه لا يصلح الآن لا يصلح
كانت والدتي قبل أن تحفظ القرآن تحرص جداً على مجيئي إليها باستمرار فلما حفظت القرآن وحفظت سورة البقرة كان أنسها مع القرآن صحيح أنها كانت تفرح بي لكن ليس كالسابق فقد اشتغلت بالقرآن وكان شغلها الشاغل ولله الفضل والمنة ــ فإذا جلست مع نفسها تراجع وتكثر المراجعة ولما كانت في مرض موتها قلت لها بشرني هل قرأت سورة الكهف قالت نعم , فهي تحفظها كحفظ الفاتحة فهي تقرأها كل جمعة وكانت تستوقفها بعض الآيات في سورة الكهف ومنها قوله تعالى (( أسمع بهم وأبصر )) وقوله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }أحبائي في الله وإني سأذكر لكم حقيقة رأيتها في والدتي فعندما قرأت عليها سورة الكهف في لحظاتها الأخيرة من هذه الحياة فمن عادتي أن أقرأ قبل سورة الكهف الآيتين التى قبلها{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً{110} وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ثم أعقب مباشرة بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} الآيات
بترتيل وتؤدة فإذا بها تفتح عينها وتنظر إلي ..قلت لها : أتحبين الله ؟! فأشارت بطرفها إلى السماء أي نعم قلت الذي علمك سورة الكهف فأشارت مرة أخرى ( ذلك أن رأسها ثقل عن الحركة كما هو حال سكرات الموت تثقل حركة الرأس ) هون الله علينا وعليكم سكرات الموت , المهم أنها كانت بعد عجز رأسها عن الحركة تشير بعينها وحاجبها بسرعة وتشخص ببصرها إلى السماء قلت أماه قولي لا إله إلا الله فقالت: لا إله إلا الله قلت : زيدي فزادت لا إله إلا الله وهي ترفع بصرها إلى السماء قلت زيدي فزادت فقلت قولي أشهد فقالتها فكنت أقرب أذني من فمها فتسمعها بوضوح ــ يا سبحان الله ــ لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم … فشرعت أنا في قراءة سورة الكهف فكانت تستوقفها بعض الآيات وإذا استوقفتها بعض الآيات أقف وأسال : هل تحبين سورة الكهف فتشير أي نعم حتى ختمت سورة الكهف عند رأسها ثم ختمت سورة يس كذلك فكانت تقف عند بعض الآيات إذا تأملها العبد وجد أن هذه الآيات وقت نزول سكينة والله أعلم
رحم الله والدتي رحمة واسعة
كتبها
أحمد بن محمد الحواشي
إمام وخطيب الجامع الكبير بخميس مشيط